الصَّبرُ مفتاح التحدِّي
الصَّبرُ قيمة موجبة، ولا يكون ذا قيمة موجبة إلَّا على الحقِّ أو من أجل إحقاقه؛ ولذا ليس للصَّبرِ علاقة بالتراخي والاعتماد على الغير، وليس الصَّبر كما يظنَّه البعض يأتي دون خيار (هكذا كرهًا)، وليس هو ذلك المقتصر على الضَّرورة القهريَّة، بل في حقيقته لا يكون إلَّا خيارًا وعلى رأس الاختيارات الموجبة؛ ذلك لأنَّ الصَّبر هو المفتاح الذي يُمكِّن مستخدميه من قبول التحدِّي عندما تحدث المواجهات مع تلك الصِّعاب التي تستوجب تفكيرًا معمَّقًا درايةً ووعيًا واستنارةً.
ولأنَّ الصَّبر قيمة موجبة وفضيلة حميدة أكَّد الله عليه في كثيرٍ من آياته الكريمة؛ ذلك لأنَّ أهل الصَّبر دائمًا في معيَّة الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاة إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[1]، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}[2]؛ ولذا فمن يكن الله معه فَلِمَ لا يصبر، أَلَا يريدُ هذه المعيَّة التي لا تُعطى إلَّا محبَّةً مِنَ الله الصَّبور؛ وهكذا قال: {وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}؛ ومن هنا فإذا كان صبرك بالله فمن يستطيع أن يخاصمك في صبرك وتحديك، أو يستطيع أن يكسر صبرك بالله؟ ولهذا فمن يصبر باسم الله فلا شكَّ أنَّ صبره لن يكون صامدًا إلَّا بعزَّة الله.
ولأنَّ الصَّبر صفة مِن صِفات الله تعالى؛ فَلِمَ لا يتمّ الاتصاف به محبَّة لِمن جعل الصَّبر صفة من صفاته الحسنى؟ ثمَّ جعل معيَّته مع من يتَّصف بصفة الصَّبر تحدّيًا للصِّعاب، وهي التي مهما عظمت لا تستطيع الصّمود أمام متحدّيها صبرًا.
وإذا تبيَّنا القرآن تدبُّرًا لاستوقفتنا آياته مفاتيح من بعد مفاتيح، وبداية نقول: ألم تكن البسملة مفتاحًا رئيسًا تُدخل قائلها يقينًا أينما شاءوا بسلام وتخرجهم متى ما شاءوا بسلام؟ أم هناك شكٌّ في أنَّ الإقدام على الأشياء باسم الله مفتاحٌ لا يعدّ أكبر تحدٍّ للصِّعاب التي تحول بين الإنجاز ومن يقدم عليه باسم الله؟
لا شكَّ أنَّ كلّ الصِّعاب التي تذلل باسم الله مفتاحٌ. ثمَّ ألا يكون قول الرَّسُول محمَّدٌ عليه الصَّلاة والسَّلام: (أسلم تسلم) من أكبر المفاتيح التي فتحت أبواب القياصرة، والأكاسرة، والأباطرة، والملوك، وكلّ الأبواب التي كان يختبئ من ورائها المتكبِّرون على العباد ظُلمًا؟ وكذلك ألا يكون قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[3] من أكبر المفاتيح التي تتضمَّن مفهوم الصَّبر على من لم يأخذ بدين التوحيد الذي جاء به محمَّد رَسُولًا مرسلًا؟ فمضمون قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} إعطاء فرص للانتظار، وفي هذا الشَّأن كمَن يقل لك: انتظر وستعرف أيُّ دِّينٍ سيعم الكَّافة، هل هو الدِّين الذي جاء به محمَّدٌ رسولًا للكافَّة، أم تلك الرِّسالات التي جاء محمَّدٌ بخواتمها؟
ألمْ يكن قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاس حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[4] من أكبر المفاتيح التي تَعطي الفرص للعقول بأنْ تختار عن تأنٍّ ورغبة وإرادة بعد أنْ تتبيّن وبلا إكراه؟ ولذا فمن كان صبره بالله الواحد القهَّار هل هناك من يستطيع أنْ يكيد له أو يقهره؟
ألم يكن قوله جلَّ جلاله: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}[5] من أعظم المفاتيح التي تُمكِّن أصحاب الصَّبر مِن إعطاء الفرص للغير، وتقطع الطُّرق أمامهم متى ما حاولوا أن يلهوا رسول الله فيما يقولون؟! أي: ألم تكن من أعظم مفاتيح التجاوز عن كلِّ الترّهات التي تضيع وقت من يلهوا في الرَّد عليها أو حتى التوقَّف عندها؟! ولذا فعندما يقول من يقول ما يقول فيك ما ليس فيك؛ هل يلحقك شيءٌ مما يقال فيك؛ ومن هنا فلا تَعر اهتمامًا لما يقال فيك بغير حقٍّ أيَّة أهميَّة ولا أيَّ اهتمامًا.
ألم يكن قوله عزَّ وجلَّ: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ}[6] من أعظم المفاتيح التي تدلُّ على أنَّ الصَّبر هو الذي جعل أولئك الرُّسُل الكرام أولي عزم؟ أي: ألا يكون هذا القول الكريم مفتاحًا ميسّرًا لمن شاء أن يستخدمه في مرضاة الله تعالى؟
ألم يكن قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}[7] من أهم المفاتيح التي تفتح أمام قائليها وعيًا ودرايةً وعن قلبٍ كلّ أبواب الزِّيادة من النِّعم التي لا تُحصى؟
ألم يكن قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}[8] من المفاتيح الرّئيسة التي تمدُّ قائليها عن اعترافٍ بالطّمأنينة وتحرّر قائلها من الولاء لغير الله تعالى؟
هذه التساؤلات تدلُّ على أنَّ جميع آيات القرآن الكريم هي مفاتيح، ويا ليتنا نأخذها مفاتيح حتى نرى المعجزات مُحاطة بالمعجزات التي يحوطها المعجز الذي لا تستمدّ صفة حُسنى إلَّا من صفاته.
أ د. عقيل حسين عقيل
أستاذ التنميَّة البشريَّة والخدمة الاجتماعيَّة
جامعة طرابلس كلية الآداب
2024م
Comments (0)